
خطاب وادان: حين تصبح المواطنة مشروعَ إصلاحٍ لا شعارَ مناسبة
لم يكن خطابُ رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني في وادان خطابَ احتفاءٍ بالتراث فحسب، بل بدا أقرب إلى بيانٍ سياسيٍّ هادئٍ يسعى إلى إعادة ترتيب الأولويات الوطنية في مرحلة دقيقة من تاريخ البلد. فقد اختار الرئيس أن يجعل من مناسبة ثقافية منصةً للحديث عن جوهر الدولة الحديثة: المواطنة، والوحدة، والعدالة الاجتماعية.
إن التركيز على المواطنة في الخطاب لا يبدو ترفًا لغويًا ولا استجابةً ظرفية، بل يعكس إدراكًا متزايدًا بأن أزمة الدولة في موريتانيا ليست في النصوص، وإنما في طبيعة العلاقة بين المواطن والمؤسسة. فحين تُستبدل الكفاءة بالولاء، والانتماء الوطني بالانتماء الضيق، تتآكل فكرة الدولة، حتى وإن بقيت قائمةً شكليًا.
كما أن اختيار وادان، المدينة التي شكّلت تاريخيًا فضاءً للعلم والتبادل والتعايش، يحمل دلالةً عميقة. فالرسالة الضمنية تقول إن هذا البلد امتلك في ماضيه القدرة على تجاوز الانقسامات دون أدوات الدولة الحديثة، فكيف يعجز اليوم عن ذلك وهو يمتلك مؤسساتٍ ودستورًا وإرادةً سياسيةً معلنة؟
غير أن الخطاب، رغم قوته الرمزية، يضع السلطة أمام اختبار المصداقية. فالمواطنة لا تُرسَّخ عبر الخطب وحدها، بل عبر سياسات عمومية عادلة، وتوزيعٍ منصفٍ للفرص، وإدارةٍ تُشعر المواطن بأن الدولة لا تُكافئ القرب، بل تستثمر في الجدارة. وهذا ما يجعل الإصلاح الإداري ومحاربة الزبونية مدخلًا لا غنى عنه لأي مشروع وطني جامع.
وفي المقابل، يُحسب للخطاب أنه لم يسلك طريق التصعيد أو تحميل المسؤوليات للآخرين، بل اختار لغةً جامعة تُحمِّل الدولة والمجتمع معًا مسؤولية التحول. وهي مقاربة إصلاحية متزنة، تعترف بأن بناء الدولة مهمةٌ طويلةُ النفس، تتطلب شراكةً بين السلطة والنخب والمجتمع المدني.
إن خطاب وادان، في جوهره، دعوةٌ إلى انتقالٍ هادئ من دولة التوازنات التقليدية إلى دولة المواطنة المتساوية. وهو انتقال لا يتحقق بالقطيعة ولا بالإقصاء، بل بإصلاحٍ تدريجي يعيد الاعتبار للقانون، ويمنح الثقة للمواطن، ويجعل الانتماء الوطني خيارًا عقلانيًا قبل أن يكون واجبًا عاطفيًا.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل ستنجح السياسات العمومية القادمة في ترجمة هذا الخطاب إلى واقعٍ ملموس؟ ذلك هو الرهان الحقيقي، لأن التاريخ لا يحفظ الخطب، بل يسجّل النتائج.
رئيس حزب الوحدة والتنمية
وخبير قضائي في مجال الصيد والاقتصاد البحري
الشيخ بوي / شيخنا محمد تقي الله
المصدر:الكاتب