حمى التجميل: حين يصبح الجسد ساحة للصراع بين الذات والصورة المتخيلة

تشهد المجتمعات العربية ارتفاعاً ملحوظاً في “هوس العمليات التجميلية”، حيث تُظهر المؤشرات -رغم ندرة الإحصائيات الرسمية- أن لبنان يحل ثالثاً عالمياً في عدد العمليات بالنسبة لعدد السكان (70 ألف عملية سنوياً)، فيما سجلت السعودية والإمارات زيادة سنوية تصل إلى 20%، خاصة بين فئة الشباب (19-35 سنة). وتكشف البيانات عن اتجاهات مقلقة؛ حيث يسعى 34% من المقيمين في الخليج لعمليات تجميل، ويخضع 15% لعمليات متكررة، بينما يحتاج 40% منهم لاستشارات نفسية بسبب تأثير المشاهير ووسائل التواصل في تشويه صورة الجسد المثالي، ما أدى إلى انتشار اضطرابات نفسية وزيادة المضاعفات الطبية بنسبة 30%، مما يستدعي تدخلاً توعوياً عاجلاً.

باتت عمليات التجميل ظاهرة تستحق الدراسة ليس فقط كخيار طبي، بل كظاهرة نفسية اجتماعية تعكس تحولات عميقة في مفهوم الذات والجمال في مجتمعاتنا العربية. فما الذي يدفع بأعداد متزايدة إلى مراكز التجميل، وكيف تؤثر صورة المشاهير في تشكيل تصورنا عن “الجسد المثالي”؟

هوس المحاكاة: عندما يصبح المشاهير النموذج المعياري

لم تعد نجوم السينما والمؤثرون على وسائل التواصل مجرد شخصيات نتابع أعمالهم، بل تحولوا إلى “نماذج قياسية” للجمال:

تأثير الصورة الرقمية:

تعرض وسائل التواصل صوراً معدلة رقمياً تخلق واقعاً مشوهاً للجمال

مقارنة مستمرة بين الشخص العادي وبين الصور المثالية التي يرتبط جزء كبير منها بتقنيات التجميل

انتشار ثقافة “الفلتر” التي تعيد تعريف توقعاتنا من المظهر الطبيعي

التبعات النفسية:

تنامي شعور بعدم الرضا الجسدي بين الشباب والمراهقين تحديداً

انخفاض تقدير الذات عندما لا يطابق الواقع الصورة المتخيلة

ظاهرة “القلق التجميلي” كشكل جديد من أشكال القلق الاجتماعي

التداعيات الاجتماعية: من الفرد إلى الجماعة

تفكك في المعايير الجمالية التقليدية:

اختفاء تدريجي لمعايير الجمال المحلية لصالح نموذج أو قالب عالمي موحد

فقدان الخصوصية الثقافية في مفهوم الجمال لصالح صورة هجينة

تحول الجمال من قيمة متعددة الأبعاد إلى سلعة استهلاكية قابلة للشراء

انعكاسات على العلاقات الاجتماعية:

تغير في معايير اختيار الشريك وتزايد الضغط للمطابقة النمطية

تنامي الظاهرة السلبية “التنميط الجمالي” في مجالات العمل والعلاقات

خلق فجوة بين من يستطيعون ومن لا يستطيعون تحمل تكاليف العمليات

الواقع والمأمول: نحو مصالحة مع الذات

ضرورة المراجعة المجتمعية:

تفعيل دور الإعلام في تقديم صور متنوعة واقعية للجمال

تضمين مناهج التربية مفهوم تقدير الذات والتوعية بمخاطر عمليات التجميل غير الضرورية

تنظيم حملات توعوية عن التنمر المرتبط بالمظهر وآثاره النفسية

الدور النفسي:

أهمية العلاج المعرفي السلوكي لمواجهة تشوهات صورة الجسد

تطوير برامج تعزز المرونة النفسية في مواجهة ضغوط المظهر

تشجيع ثقافة القبول الذاتي مع السعي للتحسين المتوازن

استعادة التوازن

لا يمكن إنكار حق الفرد في التحسين من مظهره، لكن الخطير هو تحول هذا الحق إلى هوس يمحو هوية الشخص ويقوده إلى دوامة من العمليات التي قد لا تنتهي. الجمال الحقيقي ليس في محاكاة الآخرين، بل في اكتشاف التوافق بين المظهر والهوية الداخلية، بين الذات الحقيقية والصورة المتخيلة.

فكما قال الفيلسوف سقراط: “الجمال هبة قصرية، لكن الأناقة قرار”. ربما حان الوقت لاتخاذ قرار بالأناقة الداخلية قبل الانسياق وراء هوس التجميل.

الدكتورة

أمينة الزغامي

كوتش ومستشارة أسرية وتربوية

زر الذهاب إلى الأعلى