
عندما تُقرر ألّا تشارك في الامتحان!- محمد الأمين الفاضل
أذكر أني في المرحلة الإعدادية لم أكن أهتم بالمواد الأدبية، وكنتُ لا أطيق بشكل خاص مادة الجغرافيا، ولارتباط مادة التاريخ بها، إذ كانت تُدرَّس معها كمادة واحدة على يد نفس الأستاذ، أصبحتُ كذلك لا أطيق مادة التاريخ.
وأذكر أني في إحدى حصص السنة الثانية إعدادية حضرتُ لحصة من مادة التاريخ والجغرافيا، ففوجئت بالأستاذ يقرر أن يجري في تلك الحصة اختبارا، وما زلتُ حتى الآن أذكر سؤال التاريخ في ذلك اليوم، فقد كان عن الأسباب التي أدت إلى سقوط دولة بني أمية.
وبما أني كنت كثير الغياب عن مادة التاريخ والجغرافيا، فقد فاتتني كل الدروس المتعلقة بدولة بني أمية. لم أكن أعرف يومها كيف تأسست هذه الدولة، ولا كيف سقطت، لذلك كان واضحا لي أن نتيجتي في الاختبار ستكون متدنية جدا، ولن تبتعد كثيرا عن الصفر، ولهذا قررتُ ألّا أشارك أصلا في الاختبار؛ فأن أجد صفرا يمكن أن أبرره بالغياب، خيرٌ من أن أجد نتيجة مخجلة قريبة منه لا يمكن تبريرها.
رفعتُ يدي وطلبت من الأستاذ أن يسمح لي بطرح سؤال، فأذن لي، فسألته عمَّا إذا كان المطلوب منا أن نذكر فقط الأسباب الأساسية التي أدت إلى سقوط الدولة الأموية، أم أننا مطالبون أيضا بذكر الأسباب الثانوية معها.
لم أكن بطبيعة الحال، أعرف في ذلك الوقت، إن كانت هناك أسباب أساسية وأخرى ثانوية أدت لسقوط دولة بني أمية، وحتى اليوم لا أعلم إن كان المؤرخون يقسمون تلك الأسباب بهذه الطريقة. كل ما في الأمر هو أني كنت أبحث عن أي ذريعة تحرمني من المشاركة في الاختبار، وكان لا بد أن أختلق سببا يقود إلى ذلك.
لم يُجبني الأستاذ على سؤالي، بل هدَّدني بالطرد إن أعدته. ولأن الطرد كان هو هدفي في ذلك الوقت، فقد كررتُ السؤال، فما كان منه إلا أن طردني من القاعة، و”حرمني” بالتالي من المشاركة في الاختبار.
عندما يُقرر مشروع حزب الرك ألّا يشارك في امتحان التراخيص!
أطلقت وزارة الداخلية منصةً للترخيص للأحزاب السياسية الجديدة، ووضعت شروطا لم تكن، على ما يبدو، تعجيزية. والدليل على ذلك أن آخر إحصائية أشارت إلى وجود 27 مشروعا حزبيا بدأت إجراءات الترخيص. وهذا العدد لوحده، إن رُخِّص، يُعتبر كبيرا على دولة لا يتجاوز سكانها 5 ملايين، والراجح أن عدَّاد التراخيص لن يتوقف عند الرقم 27، وربما يتضاعف، مما يعني أن تضخم عدد الأحزاب السياسية لن يجد حلا في المستقبل المنظور، وحاله في ذلك كحال تضخم أعداد منظمات المجتمع المدني، والنقابات، ومراكز الدراسات، والصيدليات، والمدارس الحرة، والبنوك، والمؤسسات الصحفية، والعيادات الطبية، ومحطات البنزين، والشعراء، والوجهاء، والمتسولين.
وحتى لا يُخرجنا الحديث عن هذا التضخم العددي من موضوع المقال، أعود فأقول: عندما قررت وزارة الداخلية إطلاق منصة لترخيص الأحزاب، قرر مشروع حزب الرك ألّا يتقدم بطلب للترخيص، وألّا يشارك ـ بالتالي ـ في امتحان وزارة الداخلية.
لم يكن ذلك بسبب خوفه من الحصول على نتيجة ضعيفة جدا، كما كان الحال مع كاتب هذه السطور حين فوجئ ذات حصة دراسية باختبار في مادة التاريخ، بل العكس هو الأرجح؛ فلو أن مشروع حزب الرك دخل امتحان وزارة الداخلية لكان في مقدمة الناجحين. وكيف لا ينجح وهو يقوده مرشح رئاسي حصل على المرتبة الثانية في ثلاث انتخابات رئاسية متتالية؟ وكيف لا ينجح وقد نجحت مشاريع أحزاب أخرى تقودها شخصيات لا يمكن مقارنة شعبيتها بشعبية رئيس مشروع حزب الرك؟
ويبقى السؤال: لماذا إذن لم يُشارك مشروع حزب الرك في امتحان وزارة الداخلية؟
يَدَّعي القائمون على مشروع الحزب أن حزبهم استكمل شروط الترخيص قبل صدور القانون الجديد، وأن الوزارة ينبغي أن ترخص له على ذلك الأساس. لكن هذه الحجة تبدو ضعيفة جدا؛ إذ أن عشرات المشاريع الحزبية الأخرى كانت قد استوفت الشروط نفسها قبل صدور القانون الجديد، فهل يُعقل أن يُرخص لحزب الرك وفق القانون القديم، بينما تُطبق القوانين الجديدة على البقية؟ وهل من المنطقي أن تُصدر دولة ما قانونا جديدا، ثم توقف العمل به مؤقتا لترخيص حزب سياسي وفق قانون قديم أُلغي أو حل محله قانون آخر؟
لا أظن أن مشروع حزب الرك جاد في المطالبة بالترخيص وفق القانون القديم الذي لم يعد موجودا. ما يبدو لي ـ وأنا هنا أعتمد على التحليل المتماسك منطقيا لا على معلومات حصلتُ عليها ـ أن حزب الرك لا يرغب حاليا في الحصول على ترخيص، وذلك لعدة أسباب، لعل من أبرزها:
1 ـ أن الترخيص سيضع النائب بيرام والنواب المحسوبين عليه أمام خيارين أحلاهما مرٌّ: إما فقدان مقاعدهم البرلمانية، أو فقدان مواقعهم القيادية داخل حزب الرك بعد ترخيصه.
2 ـ أن الترخيص سيجبر الرئيس بيرام وبعض القيادات الأخرى على الانسحاب من حركة إيرا، وهذه الحركة ما تزال تمنح لقادتها مكاسب حقوقية، وإعلامية، وربما مالية، من الصعب التخلي عنها بسهولة.
3 ـ أن الترخيص سيُسقط خطاب “المظلومية” الذي يقتات عليه قادة الحزب إعلاميا سياسيا وحقوقيا، فقادة الحزب يزعمون أن الحزب مُنِع من الترخيص لأسباب عنصرية إقصائية، وأنه مُنِع كذلك من الترخيص لأنه هو الحزب المعارض الوحيد للنظام، أما بقية الأحزاب – حسب الرئيس بيرام وصحبه- فهي مجرد موالاة من درجات مختلفة، فأحزاب الأغلبية تمثل موالاة من الدرجة الأولى، وأحزاب المعارضة تمثل موالاة من الدرجة الثانية، فوفق خطاب الرئيس بيرام وأتباعه، لا يمثل المعارضة اليوم إلا حزب الرك، وحزب القوى التقدمية للتغيير، وقد بلغ الحماس بالقوم أن رفعوا من مستوى خطاب التمثيل، حتى صاروا يقولون إن مشروعي حزبيهما يمثلان حصرا “السكان الأصليين” في موريتانيا!
الراجح عندي أن الرئيس بيرام، وهو المعروف بذكائه، وحرصه الشديد على جني المكاسب الشخصية، قد قرر أن يستثمر خطاب الإقصاء السياسي إلى أقصى مدى، وأن يواصل الاستفادة من إيرا ومقاعد البرلمان إلى آخر لحظة، وبعد أن يحصل على كل ذلك، وعندما يصبح الحصول على الترخيص للحزب لا مهرب منه ولا مفر، فحينها وحينها فقط، سيتقدم مشروع حزب الرك بطلب للترخيص، وفق القانون الجديد، وسينال الحزب ذلك الترخيص في نهاية المطاف.
عودة إلى الصفر مرة أخرى!
لنترك السياسة قليلا، ولنعد إلى ثانوية لعيون في ثمانينيات القرن الماضي. أذكر في تلك الفترة أن تلميذا من جيلنا حصل في اختبار على “صفر مربع” أو “صفر مكعب” كما كنا نقول، وبعد حصوله على ذلك الصفر ذهب إلى والدته ـ وهي سيدة أمية من بسطاء نساء المدينة ـ وأخبرها أنه حصل على صفر، فما كان منها إلا أن زغردت بصوت عالٍ، وحين سألتها جارتها عن السبب، أجابت بكل فخر: “لقد حصل ولدي على صفر في الامتحان!”، لقد كانت والدة زميلنا تعتقد أن درجة الصفر تعتبر نتيجة جيدة في الامتحان!
اليوم، يحق لأنصار بيرام أن يزغردوا هم أيضا لحصولهم على صفر في امتحان وزارة الداخلية الذي لم يشاركوا فيه أصلا، فهذا الصفر، كما أسلفت، مفيد لهم، فهو سيضمن لهم استمرار مقاعدهم البرلمانية لأطول فترة ممكنة، وسيحافظ لهم على عائدات إيرا الحقوقية والمالية، وسيمدِّد لهم من صلاحية خطاب المظلومية.
من حق أنصار بيرام أن يزغردوا لهذا الصفر، وأن يستغلوه سياسيا وإعلاميا وحقوقيا أحسن استغلال، ولكن ليس من حقهم إطلاقا أن يبلغ بهم الحماس إلى أن يقسموا سكان موريتانيا على أساس اللون إلى سكان”أصليين” وسكان “غير أصليين”، وأن يعتبروا أن مشروعهم السياسي بوجهيه “الإيراوي” و”لفلامي” هو الممثل حصريا للسكان الأصليين في موريتانيا.
هذا كلام خطير، وسأعود إليه – إن شاء الله – بمقال مستقل، إن وجدت الوقت لذلك.
حفظ الله موريتانيا..