علاقات سامة.. وروابط شافية: دليلك لفهم العلاقات المعتلة والصحية

الإنسان كائن اجتماعي بفطرته، لا يستطيع العيش بمعزل عن الآخرين. فالعلاقات تُشكّل مصدرًا للأمان، والدعم، والفرح، لكنها قد تتحول إلى مصدر للألم عندما تكون غير متوازنة أو عندما نختلط بشخصيات سامة.  

حياتنا هي علاقاتنا، وعلاقاتنا هي حياتنا

العلاقات هي عصب الحياة ولبّها الجوهري، فهي الوعاء الذي نعيش من خلاله أفراحنا وأحزاننا، نجد فيها الدعم أحياناً والألم أحياناً أخرى. نحن في الحقيقة مرآة لمن نختار أن نصاحبهم، .كل شخص يدخل حياتنا يترك أثرًا  إما يبني أو يهدم، إما يُضيف أو يستنزف، فكل علاقة تترك بصمتها على هويتنا وشخصيتنا، إما أن تبني فينا القوة أو تزرع الضعف. لذلك، فإن جودة حياتنا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بجودة علاقاتنا.  

مؤشرات العلاقات المعتلة

العلاقات المعتلة أو السامة تشبه غيمة سوداء تخنق الفرح وتستبدله بالقلق والألم، حيث يسود التلاعب النفسي والسيطرة بدلاً من الاحترام المتبادل.

فيما يلي مؤشرات وجودك في علاقة سامة :  

الانتقاد الجارح الذي يحطم الثقة بالنفس
الاستهزاء المُتعمد الذي يُخفي إهانةً تحت ستار “المزاح”
العنف اللفظي أو الجسدي كوسيلة للترهيب والسيطرة.
الغموض العاطفي واختراق الحدود، مما يجعل الطرف الآخر يعيش في حالة دائمة من الارتباك والخوف
سيطرة أحد الطرفين عبر التلاعب العاطفي، مثل لعب دور الضحية أو إلقاء اللوم باستمرار ، مما يجعل شريكه يشعر بالذنب حتى في أبسط المواقف.
تحول التواصل إلى مساحة للخوف بدلاً من الفهم المتبادل.

مؤشرات العلاقات الصحية

العلاقات الصحية تُبنى على مجموعة من المؤشرات الأساسية التي تعكس توازنها وقوتها، وأهمها :  

التوازن   بين الأخذ والعطاء، مما يجعلها مصدر سعادة ورضا لكلا الطرفين.
الوضوح في التواصل يضمن سوء الفهم ويعزز الثقة
تقارب الشخصيات وتبادل الخبرات يُعمّق الروابط ويُثرِي التجربة المشتركة
الدعم في الأوقات الصعبة
وجود قيم مشتركة كالصدق والالتزام يُرسّخ أسس العلاقة.
التعاون وتحمل المسؤولية المشتركة يدعمان الشراكة الفعّالة
الأمان العاطفي والاحترام المتبادل
تلبية التوقعات الأساسية
تغطية احتياجات كلا الطرفين

هذه العناصر مجتمعةً تصنع علاقةً صحيةً ومتينةً قادرةً على مواجهة التحديات، مما يُحقق الاستقرار والاستمرارية.

أضرار وجودك في علاقة معتلة

العلاقة السليمة تُنميك، أما السامة فتُقلصك إلى ظل لنفسك.” — إيميلي ناغوسكي

العلاقات السامة تُنهكك نفسيًّا وجسديًّا؛ فهي تدفعك إلى التشكيك في قيمتك، فتشعر أنك غير كافٍ مهما بذلت من جهد، وتعيش في قلقٍ دائم كأنك تسير على حبلٍ مشدود، خائفًا من إثارة غضب الطرف الآخر. مع الوقت، تُصبح حياتك اليومية دوامة من الأفكار السلبية التي تسرق سلامك الداخلي، فتُشوّه نظرتك للعالم وتجعل ردود أفعالك أكثر حدة تجاه أبسط المواقف، وكأنك تعيش في حالة دفاع مستمر. المشكلة الأكبر أن هذه الحلقة المفرغة تتعمق بمرور الوقت، فتزيد عزلك عن محيطك الاجتماعي والعاطفي، حتى مع أقرب الناس إليك، لأن الطاقة السلبية المستنزَفة لم تعد تترك لك مساحةً للتواصل الصحي. الأسوأ أنك تبدأ بتطبيع هذا الألم، فتُصبح السُمية جزءًا من يومك، وكأنك تعيش في ضبابٍ كثيف يمنعك من رؤية مدى تأذيك… حتى تصل إلى لحظة الانهيار.

العلاقات السامة تُحطّمك من الداخل ببطء. تشعر وكأنك عالق في متاهة مظلمة، كل خطوة تأخذك أعمق في دوامة من الشك الذاتي والألم العاطفي. تلك العلاقات لا تسرق سعادتك فحسب، بل تُغيّر طريقة رؤيتك لنفسك وللعالم من حولك. تصبح الأفكار السوداوية رفيقك الدائم، ويفقد حياتك بريقها شيئاً فشيئاً.

لماذا نبقى في العلاقات السامة رغم الأذى؟  

البقاء في علاقة مؤذية هو صراع معقّد بين القلب والعقل، تُسيطر عليه عوامل كثيرة قد لا نكون واعين بها تمامًا. وراءه أسباب خفية تُقيّدنا في هذه العلاقات:  

الوهم الأكبر: “سيتغير يومًا ما!”   التمسك بـأمل واهم بأن الطرف الآخر سيتحول فجأة إلى الشخص الذي نحلم به، رغم تكرار الإيذاء.

الخوف من الوحدة : نظن أن فقدان العلاقة – رغم سميتها – سيكون أكثر إيلامًا من تحمل الأذى اليومي.  

الضغط الاجتماعي: خاصة في المجتمعات التي تُقدّس “الاستمرار” حتى لو كان على حساب الكرامة، مثل الخوف من نظرة الناس عند الانفصال أو الطلاق.  

الاعتياد: “تعوّدتُ على الألم!” التكيّف مع الأذى يجعله يبدو “طبيعيًا” مع الوقت، فنخاف من أي واقع جديد، حتى لو كان أفضل.  

السعي نحو الكمال الوهمي: المثالية الزائدة حيث نرفض فشل العلاقة لأننا نرى فيه انعكاسًا لفشلنا الشخصي.  

الخوف من الاعتراف بالهزيمة: كأن الانسحاب يعني أننا لم نحاول بما يكفي.  

جراح الطفولة: خاصة من تعرض للإهمال أو الإساءة في صغره، قد يعتقد أنه لا يستحق معاملة أفضل لأن استحقاقه متدني

وجود ذكريات مشتركة: الذكريات المشتركة تشكل رباطاً عاطفياً يصعب كسره، فالعقل يعلق على لحظات السعادة الماضية وكأنها وعود بمستقبل أفضل

لكن الخروج من هذه الدائرة المفرغة ممكن، رغم صعوبته. الأمر يبدأ بإدراك بسيط:

أنت تستحق الأفضل.
لا يمكن إصلاح علاقة بمفردك
الشجاعة تكمن في الاعتراف بأن بعض الروابط أصبحت سامة، وأن الحل قد يكون في الابتعاد.
لا تخف من طلب المساعدة – سواء من أصدقاء مقربين أو مختصين. فالبحث عن الدعم ليس ضعفاً، بل خطوة نحو التعافي.
وضع الحدود ليس أنانية، بل ضرورة لحماية نفسك، ضع حدودًا واضحة لحماية طاقتك وكرامتك
اختر بعناية الأشخاص الذين يضيفون قيمة لحياتك
انتبه لمشاعرك بعد كل لقاء – هل تشعر بالانتعاش أم الإرهاق؟
ركز على العلاقات التي تُظهر أفضل ما فيك

العلاقات الصحية تحتاج لفيتامينات أساسية: التسامح بلسم الجروح، والسلام الداخلي لتحقيق التوازن، والتغافل عن الهفوات، وتقبل الاختلافات لإثراء الروابط، مع وضع حدود واضحة لحماية الذات، وفلترة العلاقات للاحتفاظ بالمُشعّين إيجابياً، وإظهار الامتنان لترطيب القلوب، كل ذلك مدعوماً بالرعاية الذاتية وإدارة المشاعر ورفع قيمة الذات، مع خفض التوقعات غير الواقعية، لتصبح العلاقات حدائق مُزهرة بدلاً من ساحات معارك.

عندما تبدأ في التعافي، ستكتشف أن العلاقات الصحية تُبنى على أسس مختلفة تماماً. ليست عن الكم، بل عن الجودة. عن اللحظات الصادقة التي تشعر فيها بالراحة دون أقنعة. عن التعبير عن الامتنان للتفاصيل الصغيرة، وعن المعاملة بالمثل. “عامل الآخرين كما تحب أن تُعامل” قاعدة ذهبية للتواصل الإنساني.

حياتك انعكاس لعلاقاتك، فاحرص على أن تكون تلك الانعكاسات جميلة. لا تخف من إنهاء ما يُؤذيك، ولا تتردد في الاحتفاظ بمن يُضيء طريقك، فالحياة أقصر من أن تهدرها مع أشخاص يجعلونك تشعر أنك أقل مما تستحق.

تذكر أن كل خطوة تتخذها بعيداً عن السُمية هي خطوة نحو استعادة ذاتك المشرقة، فلا تنتظر حتى تنهار تماماً لتبدأ في الاعتناء بصحتك النفسية. الأوان لم يفت أبداً لتبني علاقات تليق بك، علاقات تُنميك بدلاً من أن تُهدمك، تُشعرك بالأمان بدلاً من القلق، وتُذكرك بقيمتك بدلاً من أن تُشكك فيها.

الدكتورة أمينة الزغامي

مستشارة أسرية وتربوية

مدربة قيادة أسرية ومدربة منظومة القيم التربوية

زر الذهاب إلى الأعلى